فصل: الإيضاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإيضاح:

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً} أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم- قصص جدهم إبراهيم الذي يبجلونه ويدّعون اتباع ملته حين جادل قومه وراجعهم في باطل ما كانوا يعملون، إذ قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم وعائبا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه، يا آزر أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون اللّه الذي خلقك وخلقها؟ فهو المستحق للعبادة دونها.
{إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنى أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك، في ضلال عن الصراط المستقيم، مبين لا شبهة فيه للهدى، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقطعونها من الخشب، أو تصنعونها من المعادن، فأنتم أرفع منها قدرا وأعز جانبا، ولم تكن آلهة بذاتها بل باتخاذكم إياها ولا يليق بالعاقل أن يعبد ما هو مساو له في الخلق، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه، ومحتاج إلى الغنى القادر، ولا يقدر على نفع ولا ضر، ولا إعطاء ولا منع.
والتعبير بالضلال البين بيان لما حدث منهم بما تدل عليه اللغة كقوله تعالى لخاتم أنبيائه: {ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} وقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الذي يسلكه:
إن الطريق من هنا فأنت حائد أو ضالّ عنه.
وقد دلت آثار الكشف الحديث في العراق على صدق ما عرف في التاريخ من عبادة أولئك القوم للأصنام الكثيرة حتى كان لكل منهم صم للعبادة خاص به، سواء في ذلك الملوك والسّوقة، وكانوا يعبدون الفلك والنّيّرات من الكواكب عامة والدراري السبع خاصة.
{وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه، وهو أنهم كانوا في ضلال مبين في عبادتهم للأصنام والأوثان.
كذلك أريناه مرة بعد مرة ملكوت السموات والأرض. أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع، فأريناه تلك الكواكب التي تدور في أفلاكها على وضع لا تعدوه، وأريناه الأرض وما في طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان في معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه، وجلّينا له بواطن أمورها وظواهرها، وهذه إلى وجوه الحجة فيها مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شيء {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي نريه ذلك ليعرف سنننا في خلقنا، وحكمنا في تدبير ملكنا، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين عين اليقين.
ثم فصل سبحانه ما أجمله من رؤية ملكوت السموات والأرض فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا} أي إنه تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض، كان من أول أمره في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من عالم الأرض نظر في ملكوت السموات فرأى كوكبا عظيما ممتازا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه، وهو: (كوكب المشترى) الذي هو أعظم آلهة بعض عبّاد الكواكب من قدماء اليونان والرومان، وكان قوم إبراهيم أئمتهم في هذه العبادة وهم لهم مقتدون- فلما رآه.
{قالَ هذا رَبِّي} أي قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدا للإنكار عليهم فحكى مقالتهم أوّلا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم، ثم كرّ عليه بالنقض بانيا دليله على الحس والعقل.
{فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب قال لا أحب ما يغيب ويحتجب، إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقده فما بالك بحب العبادة الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله، لأنه قد هدت إليه الفطرة وأرشد إليه العقل السليم، فلا ينبغى أن يكون إلا للرب الحاضر القريب، السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل، ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته:
وفى كل شيء له آية تدل على أنه واحد والباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
وقد جاء في الحديث في وصف الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
والخلاصة- إن في هذا تعريضا بجهل قومه في عبادة الكواكب، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدرى شيئا من أمر عبادتهم وهذا قريب من قوله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.
وقد احتج إبراهيم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الأفول انتقال مع خفاء واحتجاب وهو مما ينافى الربوبية.
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبِّي} أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال هذا ربى على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما علمت فيما سلف.
والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب في ليلة ورأى القمر في الليلة التالية.
{فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} أي فلما أفل القمر كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرا وأسطع نورا وأقوى منه ضياء قال مسمعا من حوله من قومه: لئن لم يهدنى ربي ويوفقنى لإصابة الحق في توحيده لأكوننّ من القوم الضالين الذين أخطئوا الحق في ذلك فلم يصيبوا الهدى وعبدوا غير اللّه واتبعوا أهواءهم ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه.
وفى هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحى الإلهى، وقد ترقى في هذا التعريض، لأن الخصوم قامت عليهم الحجة بالاستدلال الأول فأنسوا بالقدح في معتقدهم، فما عرّض صلوات اللّه عليه بضلالهم إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره، وقد انتقل في المرة الثالثة من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك بيّن بعد أن تبلّج الحق وظهر غاية الظهور، وذلك قوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي} أي قال مشيرا إليها: هذا الذي أرى الآن هو ربى {هذا أَكْبَرُ} أي من الكواكب والقمر، وفى هذا مبالغة في المجاراة لهم وتمهيد لإقامة الحجة عليهم واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدّهم عنه.
والخلاصة- أن هذا الطالع أكبر من الكواكب والقمر قدرا وأعظم ضياء ونورا فهو أجدر منهما بالربوبية.
{فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي فلما أفلت كما أفل غيرها واحتجب ضوء المشرق وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر صرّح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم متبرئا من شرك قومه وتنحّى عنه لقبحه بعد أن جاراهم عليه أولا استمالة لهم وإصغاء إلى ما يقول.
والخلاصة- إنه حاور وداور، وتلطف في القول، وأرخى لخصمه العنان، حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجه وأحسن طريق، متبرئا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابا وآلهة مع اللّه.
وبعد أن تبرّأ من شركهم قفّى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إنى جعلت توجهى في عبادتى لمن خلق السموات والأرض وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أيام، فهو خالق هذه الكواكب النيرات وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات.
وفى معنى الآية قوله: {ومَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا} وقوله: {ومَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى}.
وإسلام الوجه له تعالى توجّه القلب إليه وعبر عنه به لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال أو الإعراض، والسرور أو الكآبة، إلى نحو أولئك. وتوجيهه له جعله يتوجه إليه وحده، في طلب حاجته وإخلاص عبوديته، إذ هو المستحق للعبادة، القادر على الأجر والثواب.
والخلاصة- إن إبراهيم تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم.
ونحو الآية قوله تعالى: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ}.
روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض: ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجه إليه، فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون. اهـ.
يريد أنه مائل عن معبوداتهم الباطلة وعن غيرها، فتوجهه وإسلامه خالص، لا يشوبه شرك ولا رياء، وما هو من المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو الصالحين أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.
وظاهر ما حكاه اللّه عن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، والإله هو المعبود وكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب: هو السيد المالك المربّى المدبر المتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا اللّه الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء وفى كل زمن وعلى كل حال، وملك غيره ناقص موقوت فهو المعبود بحق، والعبادة: هي التوجه بالدعاء والتعظيم القولى أو العملي إلى ذى السلطان الأعلى خالق الخلق والموجد له والمتصرف فيه.
والأصل في اختراع عبادة غير اللّه من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أمران:
(1) إن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتى لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن اللّه في الأسباب والمسببات.
(2) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤله.
وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات: التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكّر بها، وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة، ومن ثم كانوا يقولون في طوافهم بالبيت الحرام: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وكان قوم إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ولا تقدر على نفعهم وضرهم، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتى في حججهم في سورة الشعراء، ومن ثم اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابا مدبرين، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببى في الأرض، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس، والقمر يدبّر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم، ويعتقدون أن (مرداخ) وهو المشترى شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن (رنكال) وهو المريخ رب الصيد وسلطان الحرب، وأن (عشتار) وهى الزّهرة ربة الغبطة والسرور والسعادة وتمثل بصورة امرأة عارية، وأن (نيو) وهو عطارد رب العلم والحكمة.
وجاء إبراهيم بحجته البالغة، فحصر العبادة في فاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل فقال في تماثيلهم: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.

.[سورة الأنعام: الآيات 80- 83]

{وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}.

.تفسير المفردات:

المحاجة: المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد، وتارة على ما يدلى به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه، وهى بهذا الاعتبار تنقسم إلى حجة دامغة يثبت بها الحق، وإلى حجة داحضة يموّه بها الباطل، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهة، والسلطان: الحجة والبرهان، لم يلبسوا: لم يخلطوا، والظلم هنا هو الشرك في العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون اللّه يدعى معه أو من دونه.

.الإيضاح:

{وَحاجَّهُ قَوْمُهُ} أي وجادله قومه في أمر التوحيد، فهو حين أبان لهم بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب، وأثبت لهم وحدانية اللّه تعالى ووجوب عبادته وحده، حاجوه ببيان أوهامهم في شركهم، إذ قالوا إن اتخاذ الآلهة لا ينافى الإيمان باللّه الفاطر للسموات والأرض، لأنهم شفعاء عنده، ولما لم يجد ذلك معه خوّفوه أن تمسه آلهتهم بسوء، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا: إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم، وليس للمقلد أن يحتج ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، وكثيرا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة، إذ يومض في قلبه نورها ثم يعود إلى سابق وهمه خائفا مما لا يخيف، راجيا ما لا يرجى، كما يشاهد لدى زائرى قبور الصالحين والأولياء الذين يتوهمون أن هذه القبور تدفع عن زائرها الضر وتكشف عنه السوء وتدرّ عليه الرزق وتكبت العدو، إما بتصرفهم في الخلق وإما لأنهم قربان عند الرب ولا يرون شيئا من هذا ناقضا للإيمان الصحيح، وفى مثلهم يقول اللّه عز اسمه {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
{قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ} أي أتجادلونني في شأن اللّه وما يجب في الإيمان به، قد فضلنى عليكم بما هدانى إلى التوحيد الخالص وبما بصّرنى به من الحجة التي أقمتها عليكم، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم؟.
{وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ} أي ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون اللّه سوءا ينالنى في نفسى، ذلك أنى أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرّب ولا تشفع.